سورة المائدة - تفسير تفسير ابن عجيبة

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (المائدة)


        


قلت: {مهيمنًا} أي: شاهدًا، والشرعة والمنهاج: قال ابن عطية: معناهما واحد، وقال ابن عباس: أي سبيلاً وسنة. قلت: والظاهر: أن الشرعة يراد بها الأحكام الظاهرة، وهي التي تًصلح الظواهر، والمنهاج يراد به علوم الطريقة الباطنية، وهي التي تصلح الضمائر، وهو مضمن علم التصوف.
يقول الحقّ جلّ جلاله: {وأنزلنا إليك} يا محمد {الكتاب} أي: القرآن ملتبسًا {بالحق مصدقًا لما بين يديه} من جنس الكتاب، أي: مصدقًا لما تقدمه من الكتب، بموافقته لهم في الأخبار والتوحيد، {ومهيمنًا عليه} أي: شاهدًا عليه بالصحة، أو راقبًا عليه من التغيير في المعنى، {فاحكم بينهم بما أنزل الله} إليك {ولا تتبع أهواءهم} منحرفًا عما جاءك من الحق إلى ما يشتهونه، لكل نبي {جعلنا منكم شرعة} ظاهرة يصلح بها الظواهر، {ومنهاجًا} أي: طريقًا واضحًا يسلك منها إلى معرفة الحق، وهو ما يتعلق بإصلاح السرائر، واستُدل به على أنا غير متعبدين بالشرائع المتقدمة.
{ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة} أي: جماعة واحدة متفقة على دين واحد، {ولكن} عدد الشرائع وخالف بينها {ليبلوكم} أي: يختبركم فيما آتاكم من الشرائع المختلفة، أيكم ينقاد، ويخضع للحق أينما ظهر، فإن اختلاف الأحوال وتنقلات الأطوار فيه يظهر الإقرار والإنكار، {فاستبقوا الخيرات} أي: بادروا إلى الانقياد إلى الطاعات واتباع الحق والخضوع لمن جاء به أينما ظهر، انتهازًا للفرصة، وحيَازة لفضل السبق والتقدم، {إلى الله مرجعكم جميعًا} فيظهر السابقون من المقصرين، {فينبئكم} أي: يخبركم {بما كنتم فيه تختلفون} من أمر الدين بالجزاء الفاصل بين المحق والمبطل، والمبادر والمقصر، واختلاف الشرائع إنما هي باعتبار الفروع، وأما الأصول كالتوحيد والإيمان بالرّسل، والبعث، وغير ذلك من القواعد الأصولية، فهي متفقةح قال عليه الصلاة والسلام: «نحنُ أبناء علات، أمهاتُنا شَتَّى وأبونا واحد» يعني التوحيد. والله تعالى أعلم.
الإشارة: اعلم أن نبينا عليه الصلاة والسلام جمع الله له ما افترق في غيره، فذاته الشريفة جمعت المحاسن كلها ظاهرة وباطنة، وكتابُه جمع ما في الكتب كلها فهو شاهد عليها، وشريعته جمعت الشرائع كلها، ولذلك كان الولي المحمدي هو أعظم الأولياء.
واعلم أن الحق جل جلاله جعل لكل عصر تربية مخصوصة بحسب ما يناسب ذلك، العصر، كما جعل لكل أمة شرعة ومنهاجًا بحسب الحكمة، فمن سلك بالمريدين تربية واحدة، وأراد أن يسيرهم على تربية المتقدمين، فهو جاهل بسلوك الطريق، فلو كان السلوك على نمط واحد ما جدد الله الرسل بتجديد الأزمنة والأعصار، فكل نبي وولي يبعثه الله تعالى بخرق عوائد زمانه، وهي مختلفة جدَا، فتارة يغلب على الناس التحاسد والتباغض، فيبعث بإصلاح ذات البين والتآلف والتودد، وتارة يغلب حب الرياسة والجاه فيربى بالخمول وإسقاط المنزلة، وتارة يغلب حب الدنيا وجمعها فيربى بالزهد فيها والتجريد والانقطاع إلى الله. وهكذا فليقس ما لم يقل. والله تعالى أعلم.


قلت: {وأن احكم}: عطف على الكتاب، أي: وأنزلنا إليكم الكتاب والحكم بينهم بما أنزل الله، أو على الحق، أي: أنزلناه بالحق وبالحكم بما أنزل الله، و{أن يفتنوك}: بدل اشتمال من الضمير، أي: احذر فتنتهم، واللام في قوله: {لقوم}: للبيان: أي: هذا الاستفهام لقوم يوقنون، فإنهم هم الذين يعلمون ألاَّ أحسن حكمًا من الله.
يقول الحقّ جلّ جلاله: لرسوله عليه الصلاة والسلام: {و} أمرناك {أن اُحكم بينهم} أي: بين اليهود {بما أنزل الله}، قيل هو ناسخ للتخيير المتقدم، وقيل: لا، والمعنى أنت مخير، فإن أردت أن تحكم بينهم فاحكم بما أنزل الله {ولا تتبع أهواءهم} الباطلة، التي أرادوا أن يفتنوك بها، {واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك}، فيصرفوك عن الحكم به.
رُوِي أن أحبار اليهود قالوا: اذهبوا بنا إلى محمد لعلنا نفتنه عن دينه، فقالوا: يا محمد، قد عرفت أنَّا أحبار اليهود، وأنّا إن اتبعناك اتبعتك اليهود كلهم، وإن بيننا وبين قومنا خصومة، فنتحاكم إليك، فتقضي لنا عليهم، ونحن نؤمن بك ونصدقك، فأبى ذلك عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وردَّهم، فنزلت الآية.
قال تعالى لنبيّه عليه الصلاة والسلام: {فإن تولوا} عن الإيمان، بل وأعرضوا عن اتباعك، {فاعلم أنما يريد الله أن يصيبهم ببعض ذنوبهم} في الدنيا، ويدخر جُلَّها للآخرة، وقد أنجز الله وعده، فأجلى بني النضير، وقتل بني قريظة، وسبا نساءهم وذراريهم، وباعهم في الأسواق، وفتح خيبر، وضرب عليه الجزية، {وإنَّ كثيرًا من الناس لفاسقون}؛ خارجون عن طاعة الله ورسوله، {أفحكم الجاهلية يبغون} أي: يطلبون منك حكم الملة الجاهلية التي هي متابعة الهوى، {ومن أحسن من الله حكمًا لقوم يوقنون} أي: لا أحد أحسن حكمًا من الله تعالى عند أهل الإيقان؛ لأنهم هم الذين يتدبرون الأمر، ويتحققون الأشياء بأنظارهم، فيعلمون ألاَّ أحسن حكمًا من الله عز وجل.
الإشارة: إذا كثرت عليك الخصوم الوهمية أو الواردات القلبية، والتبس عليك أمرهم، ولم تدر أيهما تتبع؟ فاحكم بينهم بالكتاب والسنة، فمن وافق كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فاتبعه، فإن من أمَّر الكتاب والسُّنة على نفسه نطق بالحكمة، وإن وافق أكثرُ من واحد الكتاب أو السنة، فانظر أثقلهم على النفس، فإنه لا يثقل عليها إلا ما هو حق، ولا تتبع أهواء النفوس والخواطر، واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل على قلبك من العلوم والأسرار، فإن متابعة الهوى يُعمي القلب عن مطالعة الأسرار، إلا إن وافق السُّنة.
قيل لعمرَ بن عبد العزيز: ما ألذُ الأشياءِ عندك؟ قال: حق وافق هواي. وفي الحديث عنه صلى الله عليه وسلم: «لاَ يُؤمِنُ أُحَدُكُم حَتَّى يكُون هواه تابعًا لما جئتُ به»، وفي الحِكَم: (يُخاف عليك أن تلتبس الطرقُ عليك، إنما يُخاف عليك من غَلِبَةِ الهوى عليك).
فمن تولى عن هذا المنهاج الواضح، وجعل يتبع الهوى ويسلك طريق الرخص، فليعلم أن الله أراد أن يعاقبه ببعض سواء أدبه، حتى يخرج عن منهاج السالكين، والعياذ بالله، أو يؤدبه في الدنيا إن كان متوجهًا إليه.


قلت: {يقول الذين آمنوا} قرىء بغير واو؛ استئنافًا، وكأنه جواب عن سؤال، أي: ماذا يقول المؤمنون حينئٍذ؟ فقال: يقول... إلخ، وقرىء بالواو والرفع؛ عطف جملة على جملة، وقرىء بالواو والنصب؛ عطف على {فيصبحوا} أو {يأتي}.
يقول الحقّ جلّ جلاله: {يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء} تنتصرون بهم، أو تعاشرونهم معاشرة الأحباب، أو تتوددون إليهم، وأما معاملتهم من غير مودة فلا بأس، ثم علل النهي عن موالاتهم فقال: هم {بعضهم أولياء بعض} أي: لأنهم متفقون على خلافكم، يوالي بعضهم بعضًا لا تحادهم في الدين، وإجماعهم على مضادتكم، {ومن يتولهم منكم فإنه منهم} أي: من والاهم منكم فإنه من جملتهم.
قال البيضاوي: وهذا تشديد في وجوب مجانبتهم، كما قال صلى الله عليه وسلم: «المؤمنُ والمشركُ لا تَتَراءى نَارهَمَا» أو لأن الموالين لهم كانوا منافقين. اهـ.
وقال ابن عطية: من تولهم بمعتقده ودينه فهو منهم في الكفر واستحقاق النقمة والخلود في النار، ومن تولاهم بأفعاله من العَضد ونحوه، دون معتقد ولا إخلال بإيمان، فهو منهم في المقت والمذمة الواقعة عليهم وعليه. اهـ. وسُئل ابن سيرين عن رجل أراد بيع داره للنصارى يتخذونها كنيسة، فتلا هذه الآية: {ومن يتولهم منكم فإنه منهم}. اهـ. وفي أبي الحسن الصغير: أن بيع غير السلاح للعدو الكافر فسق، وبيع السلاح له كفر.
قلت: ولعله إذا قصد تقويتهم على حرب المسلمين، وأما الفداء بالسلاح إذا لم يقبلوا غيره، فيجوز في القليل دون الكثير، وأجازه سحنون مطلقاً، إذا لم يرج فداؤه بالمال. انظر الحاشية.
{إن الله لا يهدي القوم الظالمين} أي: ظلموا أنفسهم بموالاة الكفار.
{فترى الذين في قلوبهم مرض} وهم النافقون، {يسارعون فيهم} أي: في موالاتهم ومناصرتهم، {يقولون نخشى أن تصيبنا دائرة} أي: يعتذرون بأنهم يخافون أن تصيبهم دائرة من الدوائر، بأن ينقلب الأمر وتكون الدولة للكفار. رُوِي أن عبادة بن الصامت قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: إن لي موالي من اليهود، كثير عددهم، وإني أبرأُ إلى الله ورسوله من ولايتهم، فقال ابن أبي: إني امرؤ أخاف الدوائر، لا أبرأ من ولاية موالي، فنزلت الآية، قال تعالى ردًا عليه: {فعسى الله أن يأتي بالفتح} لرسول الله صلى الله عليه وسلم على أعدائه وإظهار المسلمين ونصرهم، {أو أمر من عنده}، يقطع شأفة اليهود، من القتل والإجلاء، {فيُصبحوا} أي: هؤلاء المنافقون، {على ما أسروا في أنفسهم} من الكفر والنفاق، ومن مظاهرة اليهود {نادمين}.
{ويقول الذين آمنوا} حينئٍذ أي: حين فتح الله على رسوله وفضح سريرة المنافقين: {أهؤلاء الذين أقسموا بالله جهد أيمانهم إنهم لمعكم}، يقولهُ المؤمنون بعضهم لبعض، تعجبًا من حال المنافقين وتبجحًا بما منَّ الله عليهم من الإخلاص، أو يقولونه لليهود؛ لأن المنافقين حلفوا لهم بالمناصرة، كما حكى تعالى عنهم: {وَإٍن قُوتِلْتُمْ لَنَنصُرَنَكُمْ} [الحَشر: 11] قاله البيضاوي. وقوله: {حبطت أعمالهم فأصبحوا خاسرين}.
يحتمل أن يكون من كلام المؤمنين، أو من قول الله تعالى، شهادة عليهم بحبوط أعمالهم، وفيه معنى التعجب، كأنه قال: ما أحباط أعمالهم وما أخسرهم! والله تعالى أعلم.
الإشارة: قد تقدم مرارًا النهيُ عن موالاة الغافلين، وخصوصًا الفجار منهم، ويلتحق بهم القراء المداهنون؛ وهم فسقة الطلبة؛ الذين هم على سبيل الشيطان، والفقراء الجاهلون؛ وهم من لا شيخ لهم يصلح للتربية، والعلماء المتجمدون، فصحبة هؤلاء تقدح في صفاء البصيرة، وتخمد نور السريرة، وكل من تراه من الفقراء يميل إلى هؤلاء خشية الدوائر، ففيه نزعة من المنافقين. والله تعالى أعلم.

6 | 7 | 8 | 9 | 10 | 11 | 12 | 13